‘ظلال العاشق’ رواية الخيال الخصب والتقنية المبتكرة

بقلم: الدكتورة لبيبة خمار

يتميز محمد سناجلة في كتاباته الرقمية بانطلاقه من تصور إبداعي خاص يبني به كونه الروائي الرقمي ويؤثته بأثافي تمشهده وتجعله فرجويا، وإمتاعيا، ومعرفيا يتجاوز اللحظة الراهنة والزائلة ليعانق عبرها الإنساني بكل تمظهراته،ولعل هذا ما نلاحظه من خلال منجزه الرقمي “ظلال العاشق، التاريخ السري لكموش” الذي جعل منه آلة مولدة للنصوص التي تلتغي فيها المسافات فتخترق بعضها، وتنفتح على البعض، وتلتغي فيها التصنيفات فليس فيها مركزي ولا هامشي، وتنتفي فيها التحديدات فلا بداية ولا نهاية، لا وسط ولا طرف وإنما كون مُكوَّر كل نقطة فيه هي البداية والنهاية، المنشأ والتطور.

آلة مولدة للقراءات، والكتابات التفاعلية اللانهائية، ومولدة للتأويلات الانفتاحية المتعددة المشارب، والإحالات الدينية، والثقافية، والأسطورية والأحداث والوقائع المستنبتة من واقع بعينه أو الموغلة في الإيهام، والإلغاز، والرمزية التي يصبح فيها السرد الرقمي احتفاء بالمعرفة، وتلفظا دائم التفكير بالرابط، والعقدة، وآلية النقر، وكيفيات العرض.

والتفكير في طرائق صوغ الكون الروائي المرقمن، والرؤية إليه، وكيفيات تصويره وإكسابه حركية، وحيوية لتقديمه على الشاشة، وتجسيد دلالاته زمانيا ومكانيا والقبض على إيقاعها؛ أي كيفيات كتابة الرواية الرقمية وكيفيات عرضها على الشاشة التي تتقدم كحركة ما بين نسج، وعرض، تأليف، وإخراج، وتداول تفاعلي قرا-كتابي.

ذاك أن الكون الروائي الرقمي يتكون من حركة أفقية تمثل سيرورة الكتابة والخلق، وأخرى عمودية تمثل سيرورة القراءة والتلقي ولعل هذا الوعي النظري، الإبداعي الرقمي هو ما جعل “محمد سناجلة” يصمم موقعه التفاعلي الخاص آخذا بعين الاعتبار التفاعل الحاصل بين الحركتين فوزعه بشكل يسمح باستمرار سيرور الكتابة بانفتاحها على عمليات القراءة المتباينة من خلال اللعب على حدود ترهين “القرا كتابة” الذي يتحول بموجبه القارئ إلى كاتب/مشارك ويتحول الكاتب إلى قارئ تفاعلي يقرأ كتاباته وكتابات غيره حيث صمم موقعه بشكل انفتح فيه على القارئ عبر روابط تفاعلية داخلية تروم التأثير المباشر، والفعال في الرواية لنقف عند رواية أخرى تفاعلية، وتشاركية وذاك عن طريق:

• مراسلة شخصياتها الرئيسية من خلال كتابة رسائل توجه مباشرة للإله كموش، ولفاطيما،

• فتح المجال للقارئ ليشارك في كتابة روايته أو لعبته، أو من خلال المساهمة في كتابة نهاية أخرى للرواية.

كما أتاح التفاعل عبر روابط خارجية لا تسمح بالتدخل في العمل، والمساس به ككتابة تعليق، ومراسلة المؤلف. مع الانفتاح على النقد والقراءات البعدية الواصفة للعمل من خلال الرابط النقدي: اكتب مقالة نقدية.

1. ظلال العاشق، رواية الخيال الخصب، التقنية المبتكرة والنقد المنتج:

تشكل رواية “ظلال العاشق” رفضا للتاريخ الإنساني، والإسلامي، والعربي الذي بنى أمجاده، وحصونه على الدم، وعلى السبي، والغنائم. ودعوة إلى مساءلته وإعادة النظر في المرتكزات التي يرتهن إليها ويتقوم بها، وإلى مراجعة ونقد مدونتنا العقائدية، والتراثية والأسطورية والنظر إلى الدين أو النقل بعين العقل والتمحيص كي نتمكن من الخروج من برك الدم الآسنة.

لذلك فهي تتقدم كمغامرة لأنها باستلهامها لأساطير الخلق، والتكوين وجعلها تتقاطع مع الخلفية الدينية التوراتية، والمسيحية، وتناصها مع حادثة الذبح والافتداء في صيغتها الإسلامية تصدم المبحر، وتهزه مخلخلة بعضا من نظم معتقداته قصد الوصول به في النهاية إلى جوهر الدين الذي يلخص في كونه سلاما وحرية لأن من “عرف الله تحرر”(الرواية) وبدون هذه المعرفة الوجدانية، والمجاهدة الصوفية، والعقلية، والاتحادية الانصهارية التي يصبح معها الإنسان ظلا لله، وتجل من تجلياته النورانية يتحول المعبود إلى إله كموشي وثني، ودموي يتحكم في مصائر العباد، ويحكمها بالسلاح، والدم. ويصبح الإنسان بتاريخه الطويل، ومصيره وقدره، وأحلامه، وهادي الأرض ومن عليها، وما سكب عليها من دم، وما دفن فيها من جثت مجرد لعبة في يد طفل صغير!


لكن ما هو تحدي الكتابة الرقمية إزاء هذا الزخم النصوصي، وهذه التقاطعات اللغوية، والتناصات التاريخية، والصوفية، و اللحظات الشاعرية والرومانسية، والإشراقية؟

 كيف صاغت هذا التيه الوجودي، والتخبط العقائدي، ودوائر التاريخ التكرارية، كيف صاغت كل هذا سردا مرقمنا؟

 كيف مشهدت المتاهة؟

 وما التقنيات، والآليات الرقمية التي وظفتها وسردتها لتفكيك الراهن عبورا نحو رواية الواقعية الرقمية؟

تتقدم ظلال العاشق باعتبارها أنموذجا فريدا للروايات التفكيكية التي استخدمت التفكيك كرؤية فلسفية ونهج وآلية كتابية من خلالها فكك المبدع النصوص المستلهمة، وأعاد بناءها وفق رؤاه الإبداعية، والفكرية، والوجودية الإنسانية مرتكزا على آليات الهدم والبناء لينسف المقولات الأساس التي ترتكز عليها هذه النصوص في سياقاتها التداولية والمعرفية، والعقائدية ويبين هشاشتها من خلال ضرب القيم الثقافية الأساسية للاستقرار، والأمن، والنظام لتحويل السرد الرقمي إلى عامل عدم استقرار وتنافر، وانعدام الأمن، والاضطراب، والصراع لذلك عمد إلى وضع النصوص المختلفة الشفرات جنب بعضها البعض وبهذا الدمج والتجاور باتت تبدو للمبحر غير منطقية وأضحى يستشعر أن ظلال سردية غريبة تلوح مع كل نقرة.

ومن نماذج هذا التجاور التفكيكي نقف عند النصوص التالية من العقدة السردية المعنونة بــ “عتيق الرب”:

النص الأول النص الثاني النص الثالث

“أخذ بناصيتي فرفعني إليه حتى كادت نفسي أن تزهق، ثم رماني، ثم عاد فرفعني من ناصيتي إلى عليائه ثم رماني، ثم عاد ورفعني من ناصيتي إلى عليائه ثم رماني. ثم صاح بي: عماد الدم”

“سأنحر في معبد الرب مائة من الإبل محرقة ليرضى”

“دلاني أبي على المذبح واستل خنجره من غمده ثم وضع حده على عنقي (…) فإذا برب الأرباب كموش المتعال بجلاله وعظمته، وقد لبس آلة حربه، يقود عربته ويمسك بيديه كبشا عظيما ما رأى العباد أضخم منه ولا أجمل وهو يصيح: إنا فديناه بذبح عظيم”

إن هذا النهج التفكيكي يدفعنا للحديث عن كيفيات بناء هذه الرواية الرقمية.

2. كيفيات بناء الكون الروائي المرقمن:

إن تعريف الكتابة في النص الأدبي يتقاطع وتعريفها في النص الرقمي حيت تتقدم كنسيج تناصي تتقاطع فيه النصوص المتعددة والمختلفة من حيث الجنس، والنوع، والنمط، المحايثة والمتباعدة زمانيا ومكانيا، وثقافيا ولغويا.

وتتضام لتشكل بنية تنهض على أساس التصادي والحوارية بما فيها من بارودية، ومعارضة أو تماثلية لكن الاختلاف يكمن في طبيعة هذا النسيج الذي لا يمكن أن يُتمثل ويفهم إلا بالنظر إلى كيفيات ترابط الخيوط وتلاقيها مشكلة عقدا تنسرب منها خيوط تتلاقى هي الأخرى لتشكل عقدا فأخرى وأخرى لتتضح معالم نسيج بلا حواف قابل للزيادة والإضافة، وكذا الحذف والنقصان بلا تشوه أو خلل يصيب بنياته لأنه في جوهره منفتح ودائم التشكل والتبدل. ليصبح الخيط والعقدة في صيرورة التشكل والتبدل هاته عماد النسج.

وهذا يعني أن الكتابة في النص الرقمي ترتكز على الرابط والعقدة وعلى المسار، والعلاقة أي الخيط الواصل ما بين العقد عبر الروابط راسما مسارات تتداخل أو تتجاور ليتشكل في النهاية ذاك النسيج العظيم اللانهائي التبنين والقراءة.

لكن هذا لا يعني أن مجرد الربط والترابط ما بين النصوص المختلفة قد يشكل النص الرقمي المترابط كما لا يعني أن القراءة الترابطية المرتكزة على الربط بين عناصر متعددة ومختلفة كافية للوصول إلى مرتبة القراءة المترابطة القائمة على التفاعل بما هو غمس، ولعب وتورط في النص وإقامة فيه وخروج آبق منه.

وبما هو مجاهدة وعرفانية تحول المستعمل إلى مبحر كريم ومريد قادر على تتبع المسارات والوقوف عند العقد وسبر أغوارها، وتتبع تمرئيها وتشظيها البلوري لملامسة سرها المخبوء، والخبيء وسط المتاهة.

لتصبح الكتابة الرقمية المترابطة، من هذا المنظور، وبالنظر إلى التجريب الإبداعي المعنون بــ”ظلال العاشق، التاريخ السري لكموش” لمحمد سناجلة والمجنس باعتباره رواية واقعية رقمية، نوعا من الخيمياء الذي يصير معه المبدع الرقمي خيميائيا عليما ومستبصرا بأسرار الإنجاز العظيم ــ بحسب تعبير باولو كويلو ــ وما حدا بنا إلى هذا النعت هو اعتماد هذا المنجز الرقمي إبان تشكله آليات سردية ورقمية جنحته وكثفته.

وجعلته رغم اندراجه المبدئي ضمن رواية الواقعية الرقمية يتعنت على كل محاولة تحاول تجنيسه وإدراجه ضمن هذا التصنيف أو ذاك فتارة تتبدى كالروايات التاريخية، وروايات الحرب، والمغامرة، وتارة كالروايات الصوفية، والدينية التي تذكرنا بروايات القرون الوسطى، وتارة كروايات الحرب، والحب، والمغامرة لنكتشف في النهاية أنها تندرج ضمن ألعاب الفيديو التي تجر المبحر ليصبح شخصية، حركية، وفاعلة، واندماجية عبر استراتيجيات الحرب الموضوعة، وعبر اختياراته التي تجعله يحارب مع هاته الصفوف أو تلك، وتجعله يختار أي ملك سيكون أأخاب بن عمري أم ميشع؟، وإلى أي قائد سيتحول، وبالتالي أي إله سينصره كموش أم يهوه أم غيره .. وبسلسلة الاختيارات هاته، والخطط الحربية التي يضعها، والأسلحة التي يوظفها وغيرها من الوسائل العقلية، الجسدية، والافتراضية المستعملة التي تجعل اليد تآخي العين يتجرد شيئا فشيئا من واقعيته ليتحول إلى كائن افتراضي.

إن التعددية الأجناسية التي تطرح مع ظلال العاشق تعود بالأساس إلى انهيار الحدود الفاصلة ما بين النصوص المستدعاة لبناء سقف النسيج الروائي والتي تترابط محافظة على خصوصياتها النوعية، وأجوائها المميزة مغيرة في بعض ثوابتها لتتمكن من الانصهار في القالب الروائي الرقمي خالقة حوارية لغوية، وأجناسية، وتقانية، وأدواتية جعلتها توظف عدة آليات لكتابة رواية خيميائية تنفتح على كل السرود، والأخبار، والحكايات، والأشعار التي تحس معها كأنك تقرأ كل الروايات. ومن ضمن هذه الآليات نذكر:

1. اعتماد مبدأ الفصل ثم الوصل من خلال تنشيط تقنية الرابط بكل معانيه المعلوماتية والفلسفية وقد مكنته هذه التقنية من اقتطاع لحظات تاريخية قديمة ومعاصرة، ولحظات إشراقية صوفية، ولقطات فيلمية أيروتيكية ووصلها بالنص الوصي وهدفه في ذلك الوصول بالقارئ/المبحر إلى حجر الفلاسفة ليتمكن من إشعال النار؛ نار الحكمة التي تشتعل خفية بين نتوءات النصوص، وتفرعاتها، وتشعباتها منيرة أعماقه آخذة بيده معلمة إياه عبر القصص أن التاريخ الحق، غير مسطر في الكتب ولا محفوظ في الخزائن، والوثائق العامة، ولا المدونات التراثية لأنه محفوظ في الظلال، والظل هو الأصل، الظلال اللائحة من تمفصلات النصوص الرخوة التي تستنبت منها وتولد النصوص بشكل لا نهائي.

معلمة إياه أن الله هو سلام ونور وكل الموجودات وكل ما يتألق هو ظل لألقه وكل الثقافات والديانات والفلسفات تجلٍ للأسراره الإلهية لذلك حاشاه أن يكون ظلاما، ودمارا، وحروبا تعلن باسمه ودماء تراق قربانا له وهذه هي الرسالة الخفية التي تعلنها النصوص في انفصالها واتصالها.

ويعلنها السرد المرقمن المعانق للتكنلوجيا عبر التركيز على تقنية الفصل والوصل كمبدأ خيميائي وجداني، وفلسفي يروم تغيير الراهن، والكائن المليء بالصراع، والمحل، وبكل أنواع القتل والتقتيل المجاني والعلو به ونقله من حالته تلك إلى حالة أنقى وأصفى وأنفس لذلك سعى المبدع إلى فصل هذه اللحظات وعزلها ثم اقتطاعها وإعادة إحيائها ووصلها في النصوص التي جاءت على هيئة هذه اللحظات مفصولة، وموصولة، مجتمعة، ومتفرقة. وقد كان من نتائج استخدام مبدأ الفصل ثم الوصل الخيميائي تطوير طرائق اشتغال الروابط.

1.1. تطوير عمل الروابط

لقد عمل المبدع “محمد سناجلة” على تطوير وظائف الروابط وطرائق اشتغالها وبروزها على الشاشة من خلال استدعاء تقنيتي الحواشي، والطيارات اللتين كانتا تستخدمان ورقيا لتحقيق نوع من الكتابة المترابطة، والتشاركية.

ولقد تم توظيفهما لقدرتهما على تطوير طرائق اشتغال الروابط، وأشير أني قد سبق ودعوت إلى استلهام تقنية الحاشية، وحاشية الحاشية، والطيارات، والأشكال الشعرية الهندسية التي انتشرت في كتابتنا العربية التراثية في كتابي: النص التفاعلي صيرورة الكتابة والتلقي ــ قيد النشر ــ وها أنا أرى تحققا وتحيينا لما كان مجرد فكرة طموح في “ظلال العاشق” التي عملت من خلال غوصها في الموروث الإسلامي على تطوير التقليد الكتابي الذي كان معروفا آنذاك وإلى تثويره، ومشهدته، ورقمنته واستدعائه ليوظف كتقنيات رقمية مُسردة تحمل عبق التاريخ، وبصمة الآن، وتحدي المستقبل.

وهذا الاستدعاء يتوافق والنهج الجدلي الذي ولدت في خضمه الظلال التي انبثقت كومضة من “ظلال الواحد” ثم ثارت عليها لتختط سننا كتابيا جديدا يرتكز على معايير كتابية وقرائية موءودة بُعثث لتحيا في لبوس جديد وهذا يتناسب ورؤية المبدع للتاريخ كعود أبدي.

إن اعتماد تقنية الحواشي المعلقة على جسد النص مكنته من تفريع النص وتوسيعه، ومن الشرح، والإيضاح، ورد الأقوال وإحالتها إلى أصحابها معتمدا في إظهارها على التسلسل العددي المشجر الرامز إلى الأنساب، وتاريخها وإلى عمليات القتل القربانية التي يتعرض لها الفروع من قبل الأصول مع احتمال العكس؛ فقد قرر ملك مؤاب “ميشع” فداءً لكل المؤابيين قتل ابنه ليكسب رضا الإله كموش ويساعده في حربه ضد اليهود الغازيين.

كما يرمز إلى ارتباط الأحداث، والوقائع التاريخية قديمها بحديثها بعلاقة السبب والنتيجة الأمر الذي يجعل كل حدث ماضوي حدثا مستقبليا معادا مما يرجح احتمال قتل الابن للأب من أجل القطعان والنساء كما يذهب إلى ذلك “فرويد” تحقيقا لمصالح، ومكتسبات ذاتية، فيقتل الأب معنويا من خلال قتل كل ما كان يعتقد فيه ويتمسك به من ثوابت فتموت القيم، ويموت الله وتبرز الآلهة الوثنية الدموية، ويُقتل الأبناء، فالآباء عبر العلاقة الجدلية الرابطة بين القطبين وتضمحل الحضارة، والثقافة والإنسانية ونعود إلى زمن الشجر، والعماء ولا مخرج إلا بمعرفة الله.

ويشير المبدع في العقدة السردية المعنونة بكموش في زمن الشجر إلى المحفز الأول للقتل المتمثل في الرغبة بحماية النسل، والنساء، والقطعان والحصول على الأمان والسلام “برمحي سأقتل كل أعدائي، وسأجعل في الأرض السلام لي ولأبنائي الذين سيحملهم البطن المقدس لفاطيما” (كموش في زمن الشجر) وهكذا قتل التنين “لوتان” أو “لوياثان” الذي يحضر برؤوسه السبعة كاستعارة تحيل على قوى العماء والفوضى التي تم القضاء عليها ليبدأ عهد جديد سمته الأساس النشوء والتطور وانتشار استعمال السلاح ليعود من جديد عصر العماء والفوضى.

فهل قُتل التنين “لوتان” فعلا أم أن الأمر يتعلق ببعث جديد وحلول في جسد آخر يجعل الإنسان في مواجهة دائمة مع الموت الذي يتسلى به كأنه لعبته المفضلة ليلتهمه أخيرا غير عابئ بأمجاده، وانتصاراته، إخفاقاته، وضعفه واستبساله في مواجهة هذا الضعف والخوف، هذا التجبر والعناد المكنى عنه بلوتان؟.

إن المبدع يتغيا من خلال استحضار أسطورة التنين لوتان ومن خلال تقنية الرابط/الحاشية أو الهامش الإشارة من جهة إلى تداخل المحكيات الإنسانية، وإلى تشابه المصائر والأقدار، واستمرار عصر العماء والفوضى. ودفعنا من جهة أخرى إلى التفكير في سبيل للخلاص، ثم كتابة تتمة لقصة أخرى، قصة “بعل” قاتل لوتان التي ستبتدئ، احتمالا، بالنشيد الذي يخاطبه فيه إله الموت قائلا:

” الآن وقد قتلت لوتان.

الآن وقد سحقت رأس التنين.

الآن وقد قضيت على الحية الملتوية،

الحية الملعونة ذات الرؤوس السبعة

الآن وقد اكتنفتك السماء بهالة من مجد

تذكر أيها الظافر أني إله الموت

أبقيت عليك .. لم أدخلك شدقي”

وقد ساعدته تقنية الحواشي على تعليق النصوص على جسد النص المنجم كالنياشين أو الأوسمة التي يعلقها الجندي بعد انتصاره/انهزامه في الحرب.

بالإضافة إلى تقنية الحواشي جعل المبدع الروابط تشتغل كما تقنية الطيارات وهي ملاحظات تظهر على النص المترابط لتحقق غايات متعددة تتلاقى عند الرغبة في توسيع النص، وتحقيق انتشاره باعتماد آليات التفسير، والتعقيب، والمعارضة، والتعليق فيتحقق الترابط ببعديه: البعد العلائقي والحركي.

2. اعتماد تقنية التناص كأوالية مولدة للنصوص حيث بني النص على تقاطعات قرآنية كما هو الحال قي العقدة السردية المعنونة بعتيق الرب التي تستحضر قصة الذبيحين: عبد الله أب الرسول محمد عليه الصلاة والسلام الذي أفتدي بمائة من الإبل، وإسماعيل عليه السلام مع أبيه النبي إبراهيم فقد رأى ميشع رؤيا فسرها الكاهن قائلا: ” لقد أمرك(الرب) بعماد الدم، وما أدراك بعماد الدم…عماد الدم ابنك البكر” هذه الرؤيا التي استجاب له الابن ثابتا:” يا أبتي افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الرب من الصابرين” هذا الرضوخ لرؤيا الأب وتصديقها كان من نتائجها افتداء كموش المعظم للابن بكبش عظيم.

كما بني على تناصات من الديانة اليهودية حيث ثم استحضار تابوت العهد وراية الحرب المسماة ” درفش كابيان” كما بني على تقاطعات مجتزأة من خطب، وأشعار ألقيت في الفتوحات الإسلامية أو في الثورات ضد المستعمر, وقد جعلت هذه التناصات فضاء النص عبارة عن خليط من معطيات، ومتتاليات، ومزيج من ثقافات، وأصداء لغوية تخترق النص لتجعل أهم خاصياته التعدد الدلالي، وتعدد الروافد التي ينهل منها، والظلال التي ترخي أستارها على النص محيلة ذاتيته إلى ذات غيرية ينبثق منها ذاك الآخر، ويطل مستندا على مبدأ التجاور، والتداخل، والتقاطع كمبدأ منظم لحضور النصوص وبروزها من قلب بعضها البعض. ليصبح النص المترابط ممثلا في ظلال العاشق أعلى أشكال التناص، والحوارية، والتفاعل من خلال الانفتاح العبر ثقافي والعبر تاريخي، والعبر الديني، والميثولوجي على معطيات وأزمنة لا تزال محافظة على فرادتها ونقائها الذي لم يمس، ليصبح النص الوصي بفضل هذه العلاقة كالمرايا التي تعكس أضواء وصورا شتى.

3. تطوير تقنيات البناء والعرض فبالنظر إلى ما راكمه المبدع “محمد سناجلة” من تجارب إبداعية تتقدم ظلال العاشق كتجربة فريدة تجمع بين البناء المشهدي الذي يتقدم فيها السرد كانجراف وبين البناء المتاهي المتداخل والمتشابك الذي يتيه وسطه المبحر في غياب خريطة توجهه وتقيه من التيه ليصبح السرد فيها مشهديا متاهيا، ولقد اعتمد في عرض هذا البناء التوليفي على طريقتين تتحكمان في طرائق القراءة هما:

1. العرض المشهدي المتاهي الذي ينطلق مباشرة بعد الزمن اللازم للتحميل، وتخلق الرواية والذي ينفتح على عقدة “عتيق الرب” التي تعتبر بمثابة نص الانطلاق أو النص الوصي الذي منه تنفلت بقية النصوص راسمة خيوط متاهة نجمية ذات مركز، ونواة متبدلة، ومتغيرة منها تنبثق النصوص، وتولد فتتكاثر، ثم إليها تعود وتنكمش وتضمحل لتكثف من جديد في النواة.

تمركز يحيل على كيفيات بناء نسيج الكون المترابط الذي تم عن طريق الانفجار الكبير، وحكاية بدء الخلق والتكوين، وعلى تلك “الذرة البدائية” الصغيرة التي انفجر منها الكون، وتمدد لتتسع أطرافه، وتتشعب أبعاده وتترامى بشكل مخروطي انقلابي يبتعد عن الأصل ليعود إليه ويضمحل! وهذا البناء المتاهي النجمي الذي تنتظم فيه النصوص على خيوط النسيج ينسجم وموضوع الرواية الذي يتحدث عن موضوعة بدء الخليقة، وعن التطور والنشوء وعن تاريخ الإنسان والكون منذ البدء إلى الآن حيث عمد المبدع إلى المماهاة بين شكل الرواية، وطريقة تبنينها، والموضوعات التي تخوض فيها، وبين الطريقة التي بدأت فيها الحياة على وجه الأرض، وطريقة خلق الأكوان والعوالم المعروفة والمجهولة وانتظامها كحبات خرز في خيط قصد الوصول إلى المطابقة التامة بين الشكل والمضمون في الرواية لتصير كونا كسمولوجيا متحدا كظل وأصل، يلبسه.

ويطابقه ثم ينفصل عنه في لحظة نورانية إشراقية. لذلك شكلت العقدة السردية المعنونة بعتيق الرب في هذا البناء والعرض المشهدي المتاهي المركز الذي تنطلق منه كل النصوص التي يصل عددها إلى خمسة هي: عتيق الرب ــ كموش في زمن الشجر ــ كموش في زمن العماء ــ كموش في حزنه ووحدته أو العاشق وحيدا ــ Game Over، التي يربط بينها ستون رابطا، تنضاف إليها أزرارالسابق التي يصل عددها إلى خمسة، وزر “اضغط هنا للتفاعل مع الرواية” الذي يفتحها على ترهين جديد قرا-كتابي ليصير المجموع الكلي ستة وستون رابطا تصنف كالتالي:

• الروابط العددية المشجرة التي تشتغل كالحواشي، أو الهوامش والطيارات المثبتة جميعها في عقدة عتيق الرب.

• الروابط التصويرية المشهدية المنفتحة كنوافذ مستقلة ينتقل منها إلى النص الوصي بكبس رمز الإغلاق.

• الروابط/ الحقائب الناقلة إلى نصوص أخرى تختلف من حيث طبيعتها: أيروتيكية، صوفية، مدح..

• الروابط/ الطيارات المنفتحة كنوافذ تجاور النص الوصي.

• روابط إعادة اللعبة/ القراءة وإيقافها والخروج منها لبدء التفاعل مع النص سواء أكان هذا التفاعل خارجيا(التعليق، مراسلة الكاتب، نقد الرواية) أو داخليا(المساهمة في كتابة الرواية الرقمية) والمتمثلة في رابط Yesو Noالمثبتين في عقدة النهاية/البداية Game Over المنظور إليها كخطاب تجنيسي فرعي يصنف الرواية ويدرجها ضمن ألعاب الفيديو الاستراتيجية، الحركية والاندماجية.

• الروابط/البوصلة هي روابط التصفح المتمثلة في الأزرار المشيرة إلى العقد السردية السابقة ودورها حماية المبحر من التيه وإرشاده في المتاهة إلى المخرج الذي يمكنه من مغادرة العقدة السردية الراهنة للرجوع إلى سابقتها لتلمس طرف الخيط الذي ضاع منه ومعاودة الإمساك به وإدارة دفة السفينة والإبحار من جديد. لذلك فهي روابط تنشئ علاقات يتعلق فيها النص السابق باللاحق، واللاحق بسابقه مع كل ما يحمل هذا التعلق، والتعالق الترابط نصي من دلالات وإشارات تداولية، ومن ثوابت بانية للنص المترابط تتأسس في مجملها على أبعاد رأسية، وأفقية تمنح للمبدع وللمبحر حرية التحرك والمناورة الحرة الاحتمالية للنصوص المتفرعة داخل فضاء الشاشة، والمستدعاة والمبنية على علاقات التفاعل، والتعالق النصي بما فيها من إحالة، وتحويل، ومعارضة، ثم تقويض وإعادة بناء المنسجمة مع جوهر الرواية التمردي، والتثويري، والتنويري.

ولا مندوحة من الإشارة إلى كون تصنيفات هذه الروابط ستختلف بحسب الوظائف التي تؤديها والمستشفة من طبيعة النصوص التي تؤمن المرور إليها.

2. العرض المشهدي المتاهي، والانتقائي

ترتكز صيغة العرض المشهدي، المتاهي، والانتقائي التي يقترحها المبدع تحت عنوان “قراءة أخرى مختلفة” على أربعة أزرار متجاورة هي:

زمن الشجر – الزمن العماء – وحيدا – عتيق الرب

تشكل خطا أفقيا مستقيما يمنح النصوص مرونة، ويحيلها كقطع الشطرنج التي يسهل نقلها على الرقعة بكل سهولة لتتحول القراءة إلى لعبة قائمة على الاختيار الحر المبني على الحدس الذي يتيح إمكانية تحقق قراءات متعددة تتم بالاطراد، أو بالعكس، والقفز، وبتنشيط أي من الروابط يتغير المركز النووي للمتاهة ليصبح هو عينه العقدة المنشطة.

إن التوليف بين البناء المتاهي الانتقائي الذي يعطي للمبحر إمكانية التحكم فيما يناور وإمكانية اختياره، وبين البناء المتاهي المشهدي الذي ينجرف فيه السرد عبر بنية التداعي في استراتيجية التوليد لصوغ عوالم روائية لعبية مُخاتِلة تستند على بتر خيط الحكاية ووصله، وتشتيت البناء داخل فضاء الشاشة وربطه وترابطه، ينجرف مقلصا من حرية المبحر في اختيار العقد السردية التي يرغب بمناورتها راميا إياه في قلب المتاهة وحيدا فينقر ويعيد النقر ليكتشف الحكاية ويكشف خيوطها وليختط معالم سرد يستقيم بنيانه ومخياله المضلع ما بين أنمل ونقرة يجعل “ظلال العاشق” ذات النصوص المورقة، والمتشعبة، الافتراضية، والمحتملة تهتم بصنعة الرواية الرقمية منتصرة للجديد في الطرائق الفنية التي تسرد التقنية المستدعاة والموظفة لتحريك النص، وتوضيبه، ومشهدته، وتنوعيه وتسخرها لتجعل الرواية تتحرك وسط مكر الازدواج، والقلب؛ ازدواجية البناء وازدواجية القراءة ومرونة التقلب بين الطرفين اللذين يجعلانها تينع وتنتشر وتحقق اللذة التي تجعلك تشعر بأنك أمام الكتاب/المكتبة، أمام ذاك الإنجاز العظيم المتولد من قلب الباروديا، والمعارضة.

إن اهتمام المبدع بصنعة الرواية يتبدى جليا كما أسلفنا في تقنية الازدواج والقلب التي جعلته يختار شكل المتاهة النجمية ذات المركز الذي تختفي وسطه الحكاية، والواقع أن هذا المركز يشكل في الوقت ذاته المخرج الذي يساعدنا على الخروج من وسط المتاهة سالمين.

والتقنية المزدوجة الموظفة من قبل المبدع تجعلنا نعتقد أن هذه المتاهة يسهل فكها لنجد أنفسنا في النهاية أمام متاهة أحادية المسار؛ أمام خط مستقيم. وهذا ما يشير إليه المبدع حينما اقترح علينا قراءة ثانية تتخذ شكل خط مستقيم كأنه يخاطبنا قائلا: المتاهة لا تخيف، انظروا إن خطها مستقيم كخيط “أريان” العجيب، ولعل هذا ما دفعه في خطابه المقدماتي الموارب إلى القول: “(…) إنها رواية جديدة تظهر، عمل آخر مختلف متمرد، ومفتون لا أعرف ما هو بدأ بالتشكل ككائن أسطوري يخرج من قلب الرماد” لذا فالمتاهة لا تخيف لأن ما يخيف حقا هو: حكاية الحكاية لهذا اختار المتاهة الأحادية المسار وابتعد عن المتاهة المتعددة المليئة بالمنعطفات، والتعرجات حتى يتمكن المبحر من عبور المتاهة وفضح هشاشة معتقداته، وتناقضات إيديولوجياته، وفظاعة إنجازاته، وكبائر مخاوفه، وعظائم مقاتله، ثم يخرج بعد المواجهة سليما معافى ولا يظل حبيس المتاهة مع أخطائه وخطاياه كــ “المينوتور”.

لقد كانت هذه بعض من ملاحظات سجلت على هامش ذاك الإبحار الاستطلاعي، والجولة الاستكشافية التي قمنا بها داخل متاهة ظلال العاشق والتي دخلناها ونحن نمسك بالخيط وخرجنا كذاك خوفا من الضياع داخل هذه العوالم المتداخلة، والمتوازية.

عن ميدل ايست اونلاينlabibah

ناقدة وباحثة مغربية.