ظلال العاشق التاريخ السّري لكموش.. ظاهرة إبداعية تناصيّة تفاعلية رقمية

ظلال العاشق التاريخ السّري لكموش.. ظاهرة إبداعية تناصيّة تفاعلية رقمية
أ‌. د. مها جرجور


“ظلال العاشق التاريخ السّري لكموش” ظاهرة إبداعية تناصيّة تستدعي قراءتها النقدية استخدام أدوات قرائية عديدة تفتح على مسارات تخصصية مختلفة، تمزج التاريخي بالمعاصر، الأسطوري بالتقني والرقمي، الجد باللعب لمحاولة فهم تعقيدات الغريزي والإلهي، الإنساني والوحشي، الواقعي والافتراضي، الحقيقي والمتخيّل بواسطة بنية سردية تفاعلية رقمية.

ومن العنوان الذي يثير حالة من الابهام تحث المتلقي على التفكير في العاشق وهويته، وهوية الظلال، وتحثه على البحث في ماهية السري في تاريخ كموش، تنطلق رحلة التناص في التصوف والتاريخ والدين، وتتبلور من خلال السرد والحوار والوسائط المتعددة المستخدمة من صور وموسيقى وفيديو… لتثير إشكاليات قديمة/جديدة حول علاقة الإنسان بربه والطريق إليه.

هذا السري الذي لم يعد سرًّا بعدما برز بقوة في كل قصة من القصص الواقعية الرقمية الأربع التي ترتبط ببعضها شكليًّا بواسطة الروابط، وعضويّا، كونها تظهر لنا مجتمعة رؤية سناجلة إلى عالم عنيف، من خلال شخصيتي كموش وعتيق الرب وغيرهما من شخصيات هذه الرواية الواقعية الرقمية.

ويرى المتتبع للعلاقات القائمة بين القصص الأربع على مستويي المضمون والترابط النصي وعلى مستوى الصور ما بين مشهد المقدمة(الفيلة والحرب والاقتتال والدخان والنيران) والمشهد الأخير الممثل بالمراهق (وهو يرمي الريموت كونترول) ، أنّ الصوت /النبوءة التي كانت المحفز على الفعل الحربي إرضاء لرب الأرباب، يتحول إلى محفّز لسلوك غير راضٍ عن كل ما يجري فيها تجسّده ملامح المراهق. من هنا، يمكن قراءة هذه القصة الواقعية الرقمية على المستويين السردي والموضوعاتي ، وعلى المستوى التفاعلي على النحو التالي:
1-على المستويين السردي والموضوعاتي يمثل الذات الممثل بشخصية كموش في قصة زمن الشجر أسطورة الإنسان المتأله الذي تحوّل من مظلوم يبحث عن انتقام لطفله ثم لوالده إلى إله ذاته، كما أتى على لسانه: ” شعرت أني أصبحت إله ذاتي”، بعدما صوره لنا رافضًا تقديس الشجرة، مدفوعًا برغبة في الانتقام الذي تحول الى مشروع ينجح فيه بفضل قوته العضلية، ما جعله يتحوّل، على المستوى النفسي، من إنسان إلى إنسان متأله. وبذلك، قدم الراوي لنا هذه الأسطورة للإنسان المتأله التي تلتقي إلى حدّ ما مع ما كان يقوم به الإغريق والرومان لجهة تأليه أبطالهم بعد وفاتهم. وهنا، يصف الراوي شجاعته الفائقة وكيفية تطورها، ثم يعتمد تقنية القطع السردية، فلا يخبرنا شيئًا عن الأحداث التي جعلت كموش ربًا للأرباب في مملكة مؤاب، ولكننا نكتشف هذا التحول بعد وصوله الى مرتبة”رب الأرباب” في القصة الثانية المعنونة بعنوان “عتيق الرب”.

و”عتيق الرب” هو اسم شخصية ثانية رئيسة تمثّل ابن الملك الذي يعتقه رب الأرباب من حكم الفداء به من أجل الحفاظ على سلامة المملكة، في تناص مع ما جاء في قصة موسى في التوراة، ولكن الراوي يعدّل في القصة التي أتت في التوراة، في أكثر من عنصر، ويحمل “عتيق الرب” مقابل ذلك، رسالة محاربة العبرانين. من هنا، يؤدي كموش في القصة الثانية دور المرسل المحفّز في برنامج “عتيق الرب” السردي الأوّل، ويقبل “عتيق الرب” هذا التحفيز ، ويصبح قائدًا لجيش قوي، مؤمنًا بأنه المنصور على أعدائه. ثم يعدل عن محاربة العبرانيين ويهب لنصرة أهل رماثا أيضًا، بإيعاز من مرسل ثانٍ ممثلاً برسولين: الأول، من قبل والده ممتثلاً لمشيئة الله ، والثاني من قبل الرومان… ويسير في تحقيق موضوعه الثاني، بعدما ربط ما طلبه الرسولان منه بالمشيئة الالهية، فجعل ذلك غير المقبول عند رجاله مقبولاً ، وبذلك تمّ التحوّل من محاربة المعتدين عليهم(العبرانيين)، إلى نصرة شعب آخر(أهل رماثا) … وتاليًا، تتقدّم المشيئة الالهية على كل مشيئة أخرى وتوظّف لتقلب الأدوار في هذا المقام.

أما في “الزمن العماء”، وهو عنوان القصّة الرابعة، يتحوّل دور كموش من مرسل ومحفّز إلى ذات باحثة عن معنى الوجود، ويمرّ سعيه البحثي هذا بالبرزخ ثم عالم الرفارف ثم عالم الشجر أي إلى الأرض… وبذلك يتحقق سقوطُه من علُ. وهنا، نرى مسيرة عكسية لتطور شخصية كموش من إنسان/ إله إلى إله /إنسان ، بعدما أغضب الله الذي لم يكن يعرفه في زمن سابق من أزمنة السرد. وفي السياق نفسه، يظهر لنا الراوي في قصة “العاشق وحيدًا” والتي يصف فيها كموش حزينًا، بعدما يكتشف من خلال حوار مع “هو” أنه “ظل ظل الوجود”، أنه ليس ظلا للعاشق/الاله أي كاملاً به، وانما هو ظل للظل أي بعيد جدًا عن الأصل والحقيقي، ما يحيلنا الى القول بدائرية هذا السعي البشري وبعبثيته، وبتأسيس فكرة أنّ العبد يبقى عبدًا وأن الاله يبقى إلهًا مهما تنوعت محاولات الأخير لتغيير حالته التي خلق بها، وأنّ الله محبة والطريق إليه واحدة. وعلى هذا، تشير بنية هذه الرواية الرقمية الدلالية العمقية إلى أنّ البشر يستمدون حق الشروع في القتال برب يدعون أنه لجانبهم، وأنهم ينفذون مشيئته، وهذا ما يظهر لنا من خلال تكراره عدة مرات: “رب الأرباب كموش العاشق المحب لعباده القاهر الجبار لأعدائه،” ومع ذلك، لم يتمكنوا من فرض سيطرتهم إلى الأبد… في حين أنّ فريقًا آخر من البشر، يعتمد المنتمون إليه الصلاة والزهد وسيلة! وعليه، تمثّل هذه القصص كلاً متكاملاً تؤطر رؤية المبدع إلى الإنسان وعلاقته بربه، وإلى المجتمعات المقودة بالسلطة الدينية مقابل صورة أخرى لسلوك جماعة المتصوفة الذين يسعون الى الغاية نفسها، أن يكونوا ظلالاً للآلهة، أناسا كاملين متحققين بالحضرة الواحدية، ولكنهم اعتمدوا وسائل أخرى الى منتهاهم.

2- على مستوى التفاعل: لا يمكن قراءة هذه الرواية الواقعية الرقمية بعيدًا عن موقعها التفاعلي، ولا يمكن أن تُقرأ نصوصها الأربعة بمعزل عن بعضها، إذ كتب سناجلة وصمّم وأخرج، وقدم سرده في قالب تاريخي وديني وأسطوري، وربط القديم بالمعاصر عبر عناصر لغوية وأخرى غير لغوية، فاستخدم النص المترابط(الأرقام وغيرها) ليفسر ما قد يغيب عن بال المتلقي، واستخدم الوسائط المتعددة لينقل المتلقي إلى قلب الحدث، ووضع روايته الواقعية الرقمية في قالب لعبة لجذب المتلقي، وهو بذلك عمد إلى استخدام تقنيات التفاعل كلها الممكنة مع المتلقين، وذلك من خلال استخدام تقنية النص المترابط من جهة، وفسحه في المجال أمام المتلقين من مراسلة الشخصيات ومحاورتها من جهة أخرى. إلا أنّ التفاعل الحقيقي بقي على مستوى الكتابات النقدية، ولم يتعداه إلا قليلا لغير المتخصصين. وهذا، ما يطرح إشكالية جديدة تتمحور حول نوعية الموضوعات التي تثير المتلقي العربي، وحول نسبة استعداده للتفاعل والدوافع المحفزة له وتلك المعيقة: أهو موضوع الرواية الواقعية الرقمية الشائك الذي خفّف من نسبة المشاركات التفاعلية أم غياب الاستعداد الفطري عند المتلقي للتفاعل، أو هو الخوف من التعبير عن الرأي، أم هذا دليل على لا مبالاة؟!!
لا شك أنّ جميع هذه العناصر تتجاذب المتلقي العربي فتجعله يحجم عن التفاعل، وكذلك موضوع الرواية حساس جدًا، ومتشعب… وكذا لغة النص الغنية بالتناص والحاملة لمحمولات تاريخية ودينية وثقافية كثيرة وتفترض متلقيًا مثقفًا، عارفًا في التاريخ واللغة العربية والديانتين اليهودية والاسلامية…
ولا شك أنّ الموضوعات المطروحة مثيرة للجدل، وتحثّ المتلقي، بطريقة غير مباشرة على اتّخاذ موقف، وربما هنا تكمن الصعوبة!
ولا شك أنّ ظلال العاشق التاريخ السري لكموش عمل انتصر فيه النص السردي على العناصر الأخرى في بنيته التي أتت الوسائط المتعددة زائدة عليه، بعدما اتّخذت وظيفة الوصف أو الشرح أو التفسير. إلا أنّ هذا لا يخفف من قيمة العمل الإبداعي ومن تفرّده في وسائل التعبير عن نبذ العنف والعودة إلى الله الواحد الأحد صانع السلام لا الحرب.

بأنامل: أ. د مها فؤاد جرجور.. ناقدة وأكاديمية لبنانية أستاذة الأدب العربي في الجامعة اللبنانية

اكتب تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


رواية ظلال العاشق - الموقع التفاعلي - محمد سناجلة - © 2024